الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وذكر الإمام أن الأكثر في الآيات إذا ذكر فيها الدلائل الموجودة في العالم السفلى أن يجعل مقطعها: {إِنَّ في ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وما يقرب منه وسببه أن الفلاسفة يسندون حوادث العالم السفلى إلى الاختلافات الواقعة في الإشكالات الكوكيبة فرده الله تعالى بقوله: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} لأن من تفكر فيها علم أنه لا يجوز أن يكون حدوث تلك الحوادث من الاتصالات الفلكية فتفكر.{وَفِى الأرض قِطَعٌ} جملة مستأنفة مشتملة على طائفة أخرى من الآيات أي في الأرض بقاع كثيرة مختلفة في الأوصاف فمن طيبة منبتة ومن سبخة لا تنبت ومن رخوة ومن صلبة ومن صالحة للزرع لا للشجر ومن صالحة للشجرء لا للزرع إلى غير ذلك: {متجاورات} أي متلاصقة والمقصود الأخبار بتفاوت أجزاء الأرض المتلاصقة على الوجه الذي علمت وهذا هو المأثور عن الأكثرين، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أن المعنى وفي الأرض قرى قريب بعضها من بعض، وأخرج عن الحسن انه فسر ذلك بالاهواز وفارس والكوفة والبصرة، ومن هنا قيل في الآية اكتفاء على حد: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] والمراد قطع متجاورات وغير متجاورات، وفي بعض المصاحف: {قِطَعٌ متجاورات} بالنصب أي وجعل في الأرض قطعًا: {وجنات} أي بساتين كثيرة: {مّنْ أعناب} أي من أشجار الكرم: {وَزَرْعٌ} من كل نوع من أنواع الحبوب، وافراده لمراعاة أصله حيث كان مصدرًا، ولعل تقديم ذكر الجنات عليه مع كونه عمود المعاش لما أن في صنعة الأعناب مما يبهر العقول ما لا يخفى، ولو لم يكن فيها إلا أنها مياه متجمدة في ظروف رقيقة حتى أن منها شفافًا لا يحجب البصر عن إدراك ما في جوفه لكفي؛ ومن هنا جاء في بعض الأخبار القدسية أتكفرون بي وأنا خالق العنب.وفي إرشاد العقل السليم تعليل ذلك بظهور حال الجنن في اختلافها ومباينتها لسائرها ورسوخ ذلك فيها، وتأخير قوله تعالى: {وَنَخِيلٌ} لئلا يقع بينها وبين صفتها وهي قوله تعالى: {صنوان وَنَخِيلٌ صنوان} فاصلة أو يطول الفصل بين المتعاطفين، وصنوان جمع صنو وهو الفرع الذي يجمعه وآخر أصل واحد وأصله المثل، ومنه قيل: للعم صنو، وكثر الصاد في الجمع كالمفرد هو اللغة المشهورة وبها قرأ الجمهور، ولغة تميم وقيس: {صنوان} بالضم كذئب وذؤبان وبذلك قرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والسلمى وابن مصرف، ونقله الجعبري في شرح الشاطبية عن حفص وقرأ الحسن وقتادة بالفتح، وهو على ذلك اسم جمع كالسعدان لا جمع تكسير لأنه ليس من أبنيته، وقرأ الحسن: {جنات} بالنصب عطفًا عند بعض على: {زَوْجَيْنِ} مفعول: {جَعَلَ} و: {وَمِن كُلّ الثمرات} [الرعد: 3] حينئذ حال مقدمة لا صلة: {جَعَلَ} لفساد المعنى عليه أي جعل فيها زوجين حال كونه من كل الثمرات وجنات من أعناب، ولا يجب هنا تقييد العطوف بقيد المعطوف عليه.وزعم بعضهم أن العطف على: {رَوَاسِىَ} وقال أبو حيان: الأولى اضمار فعل لبعد ما بين المتعاطفين أو بالجر عطفًا على: {كُلّ الثمرات} على أن يكون هو مفعولًا بزيادة: {مِنْ} في الإثبات و: {زَوْجَيْنِ اثنين} حالا منه، والتقدير وجعل فيها من كل الثمرات حال كونها صنفين، فلعل عدم نظم قوله تعالى: {وَمِنَ الأرض قِطَعٌ متجاورات} في هذا السلك من أن اختصاص كل من تلك القطع بما لها من الأحوال والصفات بمحض خلق الخالق الحكيم جلت قدرته حين مد الأرض ودحاها على ما قيل الإيماء إلى كون تلك الأحوال صفات راسخة لتلك القطع.وقرأ جمع من السبعة: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} بالجر على أن العطف على: {أعناب} وهو كما في الكشف من باب متقلدًا سيفًا ورمحًا أو المراد أن في الجنات فرجًا مزروعة بين الأشجار وإلا فلا يقال للمزرعة وحدها جنة وهذا أحسن منظرًا وأنزه.وادعى أبو حيان أن في جعل الجنة من الأعناب تجوزًا لأن الجنة في الحقيقة هي الأرض التي فيها الأعناب: {يسقى} أي ما ذكر من القطع والجنات والزرع والنخيل وقرأ أكثر السبعة بالتأنيث مراعاة للفظ؛ وهي قراءة الحسن وأبي جعفر، قيل: والأول أوفق بمقام بيان اتحاد الكل في حالة السقي: {بِمَاء واحد} لا اختلاف في طبعه سواء كان السقي من ماء: الأمطار أو من ماء الأنهار، وقيل: إن الثاني أوفق بقوله سبحانه: {وَنُفَضّلُ} أي مع وجود أسباب التشابه بمحض قدرتنا وإحساننا: {بَعْضَهَا على بَعْضٍ} آخر منها: {فِى الاكل} لمكان التأنيث، وأمال فتحة القاف حمزة، والكسائي، والأكل بضم الهمزة والكاف وجاء تسكينها ما يؤكل، وهو هنا الثمر والحب، وقول بعضهم: أي في الثمر شكلًا وقدرًا ورائحة وطعمًا من باب التغليب.وقرأ حمزة والكسائي: {يفضل} بالياء على بناء الفاعل ردًا على: {وَمَن يُدَبّرُ} و: {بفصل} و: {إِذْ يغشى} وقرأ يحيى بن يعمر وهو أول من نقط المصحف وأبو حيوة والحلبي عن عبد الوارث بالياء على بناء المفعول ورفع: {بَعْضَهَا} وفيه ما لا يخفى من الفخامة والدلالة على أن عدم احتمال استناد الفعل إلى فاعل آخر معن عن بناء الفعل للفاعل: {إِنَّ في ذَلِكَ} الذي فصل من أحوال القطع وغيرها: {لآيات} كثيرة عظيمة باهرة: {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يعملون على قضية عقولهم فإن من عقل هاتيك الأحوال العجيبة وخروج الثمار المختلفة في الأشكال والألوان والطعوم والروائح في تلك القطع المتباينة المتلاصقة مع اتحاد ما تسقى به بل وسائر أسباب نموها لا يتلعثم في الجزم بأن لذلك صانعًا حكيمًا قادرًا مدبرًا لها لا يعجزه شيء، وقيل: المراد أن من عقل ذلك لا يتوقف في الجزم بأن من قدر على إبداع ما ذكر قادر على إعادة ما أبداه بل هي أهون في القياس ولعل ما ذكرناه أولى.ثم إن الأحوال وإن كانت هي الآيات أنفسها لا أنها فيها إلا أنها قد جردت عنها أمثالها مبالغة في كونه آية ففي تجريدية مثلها في قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} [فصلت: 28] على المشهور.وجوز أن يكون المشار إليه الأحوال الكلية، والآيات افرادها الحادثة شيئًا فشيئًا في الأزمنة وآحادها الواقعة في الأقطار والأمكنة المشاهدة لأهلها ففي على معناها؛ ومنهم من فسر الآيات بالدلالات لتبقى في على ذلك وهو كما ترى، وحيث كانت دلالة هذه الأحوال على مدلولاتها أظهر مما سبق علق سبحانه كونها آيات بمحض التعقل كما قال أبو حيان وغيره، ولذلك على ما قيل لم يتعرض جل شأنه أنه لغير تفضيل بعضها على بعض في الأكل الظاهر لكل عاقل مع تحقق ذلك في الخواص والكيفيات مما يتوقف العثور عليه على نوع تأمل وتفكر كأنه لا حاجة إلى التفكر في ذلك أيضًا، وفيه تعريض بأن المشركين غير عاقلين، ولبعض الرجاز فيما تشير إليه الآية:
وأخرج ابن جرير عن الحسن في هذه الآية أنه قال: هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فسطحها وبطحها فصارت قطعًا متجاورة فينزل عليها الماء من السماء فتخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها وتخرج نباتها وتخرج هذه سبخها وملحها وخبثها وكلتاههما تسقى بماء واحد فلو كان الماء ملحًا قيل إنما استبسخت هذه من قبل الماء، كذلك الناس خلقوا من آدم عليه السلام فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب فتخشع وتخضع، وتقسو قلوب فتلهو وتسهو، ثم قال: والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان قال الله تعالى: {وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 82]. اهـ. قال أبو حيان وهو شبيه بكلام الصوفية. اهـ. .قال القاسمي: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ} أي: بسطها وجعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض لإخراج النعم الكثيرة منها.قال الشهاب: استدل به بعضهم على تسطيح الأرض، وأنها غير كرية بالفعل. وأن من أثبته أراد به أنه مقتضى طبعها! ورد بأنه ثبت كريتها بأدلة عقلية، لكنه لعظم جرمها يشهد كل قطعة وقطر منها كأنه مسطح! وهكذا كل دائرة عظيمة. ولا يعلم كريتها إلا هو تعالى.{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} أي: جبالًا ثوابت أوتادًا لها يكثر فيها النبات وتنحفظ تحتها المياه: {وَأَنْهَارًا} متفجرة منها، وذلك لتكثير النبات والأشجار وحفظ الحيوان: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي: صنفين اثنين كالحلو والحامض، والأسود والأبيض، والصغير والكبير، والبستاني والجبلي.قال المهايمي: ليفيد كل صنف فائدة غير فائدة الآخر، فكان كل صنف نعمة بعد الإنعام بأصول الأصناف، وجعل لإتمام الإنعام بالأصناف المختلفة الطبائع؛ لئلا تجتمع فتضار متناولها فصولًا مختلفة إذ: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} أي: يلبسه مكانه فيصير أسود مظلمًا بعد ما كان أبيض منيرًا فبطول الليل يحصل الشتاء، وبطول النهار يحصل الصيف، وبأحد الاعتدالين يحصل الخريف، وبالآخر الربيع: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: في مد الأرض وما بعده: {لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: لآيات باهرة لقوم يتفكرون فيستدلون بأن تكوين ما ذكر على هذا النمط البديع لابد له من قادر حكيم! أو يتفكرون فيعلمون أن تكثير النعم لجلب محبة المنعم بصرفها إلى ما خلقت من أجله. والمحبة موجبة للرجوع إليه. وفيه إشارة إلى أن من دبر ذلك لمعايشهم، أفلا ينعم عليهم بإرسال رسل وإنزال كتب ترشدهم إلى ما فيه سعادتهم؟ بلى، وهو أحكم الحاكمين.لطائف:الأولى: قال الرازي: من الاستدلال بأحوال الجبال، أن بسببها تتولد الأنهار على وجه الأرض. وذلك أن الحجر جسم صلب. فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل احتبست هناك، فلا تزال تتكامل فيحصل تحت الجبل مياه عظيمة. ثم إنها لكثرتها وقوتها تثقب وتخرج وتسيل على وجه الأرض. فمنفعة الجبال في تولد الأنهار هو من هذا الوجه، ولهذا السبب. ففي أكثر الأمر أينما ذكر الله الجبال؛ قرن بها ذكر الأنهار، مثل ما في هذه الآية، ومثل قوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27].الثانية: أشار الرازي إلى أن الناس، كما ابتدأوا من زوجين اثنين بالشخص، هما آدم وحواء، فكذا الأشجار والزروع خلقت أولًا من زوجين اثنين ثم كثرت، والله أعلم.الثالثة: في قوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} استعارة تبعية تمثيلية مبنية على تشبيه إزالة نور الجو بالظلمة، بتغطية الأشياء الظاهرة بالأغطية، أي: يستر النهار بالليل. والتركيب وإن احتمل العكس أيضًا- بالحمل على تقديم المفعول الثاني على الأول- فإن ضوء النهار أيضًا ساتر لظلمة الليل، إلا أن الأنسب بالليل أن يكون هو الغاشي. وعد هذا في تضاعيف الآيات السفلية وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهرًا- باعتبار أن ظهوره في الأرض- فإن الليل إنما هو ظلها، وفيما فوق موقع ظلها لا ليل أصلًا. ولأن الليل والنهار لهما تعلق بالثمرات من حيث العقد والإنضاج، على أنهما أيضًا زوجان متقابلان مثلها.وقرئ {يغشّي} من التغشية- أفاده أبو السعود-.ثم بيَّن تعالى طائفة من الآيات بقوله: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} أي: بقاع متقاربات مختلفة الطبائع. فمن طيبة إلى سبخة، ومن صلبة إلى رخوة، مما يدل على قادر مدبر مريد حكيم في صنعه: {وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} جمع صنو، وهي نخلة أصلها واحد وفروعها شتى، وفي القاموس النخلتان، فما زاد في الأصل الواحد، كل واحدة منهما صنو، ويضم. أو عام في جميع الشجر، وإفراد الزرع لأنه مصدر في الأصل يشمل القليل والكثير: {يُسْقَى} قرئ بالتحتية والفوقية: {بِمَاءٍ وَاحِدٍ} أي: بماء المطر أو بماء النهر: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} فتتفاضل قدرًا وشكلًا ورائحةً وطعمًا. والأكل، قرئ بضم الهمزة والكاف وتسكينها وهو ما يؤكل، وهو هنا الثمر والحب. والمجرور إما ظرف لـ {نفضل} أو حال من بعضها، أي: نفضل بعضها مأكولًا. أو: وفيه الأكل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: الذي فصل: {لَآيَاتٍ} على وحدانيته تعالى وباهر قدرته: {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فإن من عقل ما تقدم جزم بأن من قدر على إبداعها وخلقها مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح في تلك البقاع المتباينة المتجاورة، وجعلها حدائق ذات بهجة؛ قادر على إعادة ما أبداه، بل هو أهون في القياس. اهـ..قال ابن عاشور: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}
|